الأربعاء، 26 أغسطس 2015

كيف تكتبين لحبيبٍ تسكنين معه؟


( حبيبي حبيبي حبيبي
أحب حين تقوَّس ذراعك على خصري قبل تقبيلي، أحب كيف تضحك، كان ذلك قبل يومين بالتحديد ونحن نشاهد التلفاز بعد الأفطار، كنت متوسدًا فخذي و شعرك بين أصابعي ..لك ان تتخيل كم كانت لذيذةً حينها لأتذكرها حتى اللحظة
أحب حين تلمني فجأةً في السرير وسأقول لك أن يدك ثقيلة عليّ لكنني أحب ثقلها.. أحب حين يشعرني جسدك بالأختناق .. أحب أن أختنق بسببك، أحب إستيقاظنا المفاجئ حين ننظر في عينيّ بعضنا متفحصين ان كنا واعيين أم لا ثم نترك قبلة ونعاود النوم، 
أحب كيف أنني أنتظر حركتك القادمة، تمشي تأكل تتحدث تلف شعرك على أصبعك ..كل ذلك مُبهرًا لي ولا أبالغ ..أترى كيف تتحرى الأم حركة ولديها القادمة أنا كذلك أفعل، كنت أشمُ أشياءك التي عندي علني أشمك فيها والآن أنتقلت العادة الى ملابسك و وسادتك، أحب كيف أعود لك في كل مرة ..رائحتك، ذراعيك الحانيين، كيف يجعلني هذا الكلام أبكي ..حين أكتب لك هنا أو حتى في دماغي، كيف تدعوني للبكاء و الرقص في آن ..، جمالية البكاء بجانبك وحتى خلفك كالوقوف أمام شيء جليل لاتجد سوى أن تذرف دمعًا أمامه مبتلعًا ريقك و قلبك معًا، 
قلت لك ليلة (أحس بنبضه لما أحبس نَفَسي جذي) تلك الحبسة ..حبسة النفس التي اوصلتني لنبض طفلي هي ذاتها من أوصلتني إليك، حبسة النفس على الهاتف ..حرارة الأذنين، و تلك النشوة التي جعلت قدماي أخف من ريشة حين رأيتك للمرة الأولى ..كل شيء حرك قلبي معك ما كان ليحركه مع غيرك ثم احب كيف أننا أحببنا بعضنا على مانحن عليه ولم نحاول حتى الآن تغير أي شيء صغير 

حبيبتك ..هدية الله)

+
اليوم ابنة اختي ذات السنتين والأربعة أشهر دُهشت كيف مات الصوص الصغير في يدها وهي أمسكته بحنية بالغة، حاولت جاهدة إعادة الحياة له بالماء و المناديل لكنه فقدها،كيف يموت صوص صغير من الحب؟ ذلك جعلني أفكر كيف ينتحر العشاق أو الفنانين و الأدباء من الحب العميق، كيف ينفلت الأبناء من أمهم التي -في كل ممارساتها اليومية- تحرص على غمرهم بالحب حتى الغرق؟ كيف في كل يوم سيدة الأربعين عامًا تهاتف شابًا وتشعر معه بالحب الذي لاتشعر به مع زوجها الذي يشاركها غطاءً واحدًا لسنواتٍ جمة
كيف أنني حين توقف نبض جنيني في بطني توجب على رحمي إجهاضه حينها أردت أن أجهضه في بيتي حيث أراه و أمسه ثم أدفنه بيداي رغم كل الدم الجامد الذي خرج مني وآلمني حد أني لم أعد أشعر بساقاي
ثم حين ذهبت للمشفى و أخرجته هناك نسيته من فرط خوفي وأملي ببقاءة في داخلي، لم أرد حينها أن يأتي أحدًا لزيارتي والتأكيد عليّ بأني متعبه و فاقدة، لم أرد أن يعبر لي أحدًا عن حبه بهذه الطريقة، أردت أن أعود لبيتي وأمارس حياتي كما كنت أفعل سابقًا مكتفية برسائل الواتس اب منهم،  
كان يتوجب عليّ أن ان اتمدد على السرير في كل مرة يأتي فيها أحدًا لزيارتي، وحتى اذا لم يكن هنالك أحد توجب عليّ البقاء متمدده طوال اليوم، كنت أموت و أنا مستلقية على السرير أو الكنبة، صارت أعصاب يدي ذابلة وغير قادرة على حمل شيء، أشغلتها بالخيوط حتى أعود لشقتي فأودت أمي أن ارتاح حتى من هذا وقالت "لايشوفج أحد بعدين يقولون هذي اهيا بصحتها" فلم تدري كم تؤذيني من كثرة خوفها عليّ 
أنه مثل "افتح ثغرة في ورقة و أرفعها للشمس، سيدهشك كمية الضوء العابرة منها" الحب مثل الورق  حين تثقبه بجرح أو حب إضافيّ يبقى هذا فيه ومعه أينما كان، وعليك ان تكون شجاعًا لأمتلاك المقدرة على منع الأبرة من النفاذ، الحب لايحتاج لحبٍ إضافي كما يظن البعض، انه سعيد بهيئته هذه من دون زيادة أو نقصان، لكننا حين نسيء فهمه نثقبة بأبرتنا الخاصة وهي حادة دائمًا و يبقى أثرها سواء في الوعي أو الاوعي يبقى و يستمر
قلت يومًا اننا حين نحصل على شيء نريده فأننا نتوقف عما كنا نفعله قبل الحصول عليه صح؟ هكذا نحن نفقد الشيء فنشعر بوطأة مكانه و نحصل عليه فنعتاد حينها نحتاج تلك الأبرة لننهي كل هذا الهراء، ثقوب ثقوب ثقوب وهكذا دواليك
هذا يفسر كيف يفقد الأشخاص ذاتهم الخاصة حين يرتبطون/ يحبون، فتجد المرأة حياتها مكشوفة بكل تفاصيلها الصغيرة أمام الرجل الذي تعيش معه/ تحبه بدون مكان صغيرٍ للأختباء بعد أن قطعت علاقتها بصديقاتها و هواياتها وأفكارها الخاصه و يجد الرجل نفسه مكشوفًا أمام أسئلة زوجته أو حبيبته التي لاتنتهي بعد أن ترك نفسه للواجب الذي يحتم عليه التعامل مع هذه المرأة
ثم يموت الأثنان في الحب لأن هذه هي الطريقة لقول كلمة أحبك، لهذا يظن الناس ان الحب الحقيقي يختفي بعد الزواج لأننا نتخذ منه شكلًا آخر، يظن الناس ان المرأة الزوجة تختلف عن المرأة العشيقة و كذلك الرجل الزوج و الرجل المعشوق، يموت الناس يوميًا من سلك الطرق الخاطئة و الوعرة للحب، من تغذية غريزة العاطفة بالتعود على أشكال الحب الظاهريه، يلهثون وارء المواد الحافظة للقليل لديهم ثم يفاجؤون بتلك الشاحنة التي ظهرت بنحوٍ لم يكن في الحسبان ..فيختفي كل شيء كأنه لم يكن 


لذلك كيف تكتبين لحبيبٍ تسكنين معه؟ كيف تمسكين بالأبرة و الورقة معًا بدون ثقبها، تعيشين معه كل يوم ..تأكلين تضحكين تنامين تمارسين الحياة بكل أشكالها يوميًا فكيف تكتبين في رسالة واحدة أنك تحبينة ثم تذيلينها بجملة كره لم تتوقعي ان تكتبيها يومًا، لم عليك أن تكتبي او حتى تقولي هذا النوع من الكلام؟ لأننا بحاجةٍ لأن نبقي منطقة الـ privacy zone آمنة
وهذا طبيعي جدًا

*وانا الآن أضحك بهستيريا .. الحمد لله والشكر أحب نفسي ترا ❤️

الأربعاء، 28 يناير 2015

قالت ريما




الانتظارُ ليس دائماً سيئاً ولا دائماً مؤلماً حتى لو لم يأت *

هكذا كنت ..انتظر
أنتظر رسالتك القادمة، أنتظر موعد إستيقاظك، أنتظر زيارتنا لبيتكم حتى أخطف نظرة لك من الباب الموارب، شوقي المحموم للنص الجديد، مشاعري المتسارعة نحوك، كلمة حنونه لم تقلها لي من قبل، حماقة جديدة تقنعني بها فنفعلها .. ثم مجددًا أنتظر كما لم أنتظر سابقًا 
سبع سنوات على هذه الحال ..من نصٍ إلى نص، من شجارٍ إلى آخر و من حنين لاندري إلى أين نفيض به إلى حنين أعظم و أكثر شدة، ياه كم كنا مزدحمين ببعضنا، كم كانت كلمة حبيبي يا حبيبي خجلةً و خائفة بل مرعوبة من كل شيء، كم كنت أحبك و أحبك كل ليلة ولا أنام و أحبس دمعي في صدري خشية أن تحس بقلبك بدمعة تترقرق في عيني فيؤذيك ذلك ولا تفصح، سبع سنوات أنقضت في حضنك كأنها لم تكن

حضنك الذي كنت أحلم به و أدرب شفتيّ كل ليلة لتقبيلك بعده صار -و لله كل الحمد و الثناء- حقيقة ثابته، صرت أشعر بحرارة دمك في عروقه، صار كل الكلام الذي قيل و حدث في الأفلام و الروايات و الأغاني عن الأحضان و القبل تفاهة ولايعدو عن كونه كلامًا على كلام، أصبحت أوقن أن مابيننا ليس حبًا ..انه شيئًا لايُسمى، فالذي يغير فسيولوجية الجسد و تركيبة الروح حقيقةً ليس إلا من رب الحب و خالق الحب الذي جعلني و جعلك كما نحن الآن، أقول لك تعال لي فتأتي و نحتضن بعضنا بالساعة و أكثر رغم أني اقول لك "روح بيتكم" مع التكشيرة المعتاده لكني أعني أن تمضي فيّ، في داخلي، انا بيتك و ملاذك، انا خولة التي تعود الصبية الصغيرة ذات الجديلة الطويلة ما أن تريح رأسها على صدرك، خولة التي لاتدري ما جدوى الكتابة لك ان كنت تعرف كل هذا الكلام ولا إن مازالت جيدة في النصوص لكن ريما تقول "بالكتابة نسكت العالم" .. لا أريد إسكات العالم أريده فقط أن يعرف عن حبيبين صغيرين في هذا الكوكب عاشا على الأنتظار، على الأيمان بالله و بقدرته السابغة و رحمته و رأفته حتى في تحقيق أمنية صغيرة لهما برؤية بعضهما في الحلم، بذلك الفرح الكبير الذي يرتسم عليهما يومًا أو حتى أسبوعًا بطوله بسبب صدفةٍ خاطفه لصوتهما أو ظلهما معًا، أن يعلم أن هذان الحبيبان رغم كل أخطائهما و ذنوبهما تقبل هذا الرب العطوف إيمانهما ببعضهما، حبهما، دعواتهما الصادقة بأن تختفي المسافة بينهما حتى لو كانت مليميترًا واحدًا، أن يعلم أن لاعيب في الحب أن أصلحنا أنفسنا لأجله، أن الله يريدنا أن نحب بعضنا و نشتاق لبعضنا و نحتضن بعضنا، ان نقرب هذه الأجساد حتى تتآلف الأرواح، ان نتذوق حلاوة لمسة يد صادقة، رسالة آخر الليل و حتى ابتسامة عابره من دون أدنى نوايا سوى الحب الذي يقودنا إليها

ان يدرك النعمة الكبيرة في أصغر الأشياء حوله، ان يرى انه لو اجتمع لخلق ذبابةٍ ما استطاع ولو سلبته ذبابةً شيئًا ما استطاع استرداده منها، انه ضعيف (تقتله الشرقة و تنتنه العرقة و تؤلمه البقة)*، اننا و بكل مانفعله كل يوم من تغييب ضمائرنا و فطرتنا مانصنع إلا طغاة مفسدين، مانؤذي إلا أنفسنا

أن يرى كم كنت سعيدة بعد ليلة عقد قراني فصليت و دعوت لكل الناس بأن يشعرو بما أشعر به تلك اللحظات، بلطائف الباري عز و جل الذي سهل لنا أمرنا و جلست بجانبه لوحدنا، و رأيت عينيه و كلمته من دون خوف

ثم الآن أيها العالم هذان الحبيبان ..أنا و هو، أصبحنا ننتظر الموعد التالي الذي نرى فيه بعضنا، ننتظر شقتنا الصغيره، ننتظر ليلة الزفاف، كتبي و أغراضي الكثيرة التي سأنقلها من غرفتي إليه، كتبه الأربعين و اغراضه ايضًا، مسافة الثلاث أشهر و الست أيام 


فلله الحمد و الثناء في الأولى و الآخره

لماذا الثلاجة في الصورة؟ 
لأن أول شيء أشتريته لشقتنا الصغيرة قبل حتى استلامك مفتاحها هي الثلاجة 
وانا أحب الثلاجة! 


*شكرًا ريما
انتظر بفارغ كل شيء ان أقرأ حكاياكِ في كتاب قلتي -سابقًا- أنكِ تكتبينه :)!


الاثنين، 6 أكتوبر 2014

19/


انتظرتها أسفل العمارة، أرتديت معطفي الأسود الوحيد -كما اخبرتني- مع وشاحٍ رمادي، ذقني صار كثيفًا كما شعري الذي استطال، لن أشذبهما باعتبارهما يحميانني من البرد، نزلت بطقطقة كعبها العالي التي سبقتها إليّ، معطف أسود من كتانٍ سميك حتى ركبتيها، جوربان لصيقان، شعرها معقود للأعلى مع أحمر شفاه و خطيّ كحلٍ فوق جفنيها و قرطا لؤلؤ، فاجأتني بقبلة علنية على خدي ماجعلني أتلفت يمنةً و يسرى

- لسنا في فلسطين، ما رأيك بي؟
- جوليا..
- أعرف هذه النبرة ستبدأ بتأنيبي، أنت لست معتادًا على البرد هنا فحسب ثم أنها ماريا ..انا لم أضع مكياجًا منذ عقود أنا حتى لا أعرف كيف أسير بكعب عالٍ ..أغفر لي هذه المره
- هذه المرة فقط

كانت فاتنه و في داخلي أشعر بالمسؤولية تجاهها، ليس خوفًا عليها من المرض بل أن ماسيصيبها سيكون من تقصيري، دائمًا هنالك واجبٌ بيننا أشعره وحدي، جوليا لاتسألني هذه الأسئله رغم أنها إمرأه و المرأة تشعر فطريًا بالأمومة تجاه رجل تحبه، ليس لامبالاة منها لكنها تفضل ان تستشفها مني على أن تسألني أسئلة الأمهات اللواتي مافي رؤوسهن إلا بطون أبناءهم و ملابسهم، هي تعرف أنها أن تركت غريزتها تسيطر عليها فستصير عائلًا لطفيليّ بغيض يمتصها ثم يتركها بحثًا عن أخرى تغذيه بجسدها لا بأسئلتها، ربما لأني أعتدت أن أكون رجل البيت و هنا لابيت أفرض عليه وصايتي فاتخذت جوليا دارًا لي، أنا حتى لا أريدها أن تمشي هكذا في الشارع وهي تطفح غوايةً و أنوثه، مع انها ضائعه في المعطف ولا معالم لساقيها سوى أنهما كساقيّ غزالة وليده إلا أني أحب نحولها، أقتربت مني في مشيتها ثم قالت "عانق يدي ..لامعنى لكل هذه البهرجه أن لم تعانق يدي" اخرجت يدي من جيبي وفتحت لها ذراعي فشابكته واستندت عليه، بدت سعيده و الأكثر منه مرتاحة رغم الكعب العالي، كان الهواء خفيفًا وباردًا ومتكتلًا للأسفل، أشعر به يتسلل إلى عظام أرجلي مكونًا حُبيبات الصقيع الهشه، الضوء بدأ بالخبو في عواميد الأناره ذلك أن الوقت تأخر فتبدأ الأمسيات، لم أستطع الربط بين بهرجة جوليا على حد قولها و إمساكها لذراعي، كان ذلك شيئًا جديدًا أجربه جهرًا في الشارع مع إمرأه "الآن جلال ..بعد ساعةٍ أو أقل سترى الحضور سُكارى و أطرافهم معلقةً بأجسادهم على نحوٍ عبثي، سترى وجوههم مشدوهه فتقول في نفسك "لايكون هذا الأنصات إلا للموسيقى" ثم تلفظ ماريا آخر نوتاتها فيصمت الجميع ..أكثر، في اللحظة مابين الأستفاقة من الدهشة و إستعادة النفس ثم تراهم يقفون على أرجلهم من دون إراده فتضج القاعة الحمراء الذهبية ذات الثلاثة أدوار بالتصفيق المدوي كوابلٍ من الرصاص"، لم أرد، قليلًا فبانت لنا الأضواء الصفراء لبوابة القاعه وجمع من الناس في معاطفهم السوداء، أخرجت جوليا التذكرتين من حقيبتها و سلمتها الرجل الواقف بمحاذاة الحارس الضخم فابتسم لنا و شرع يده للدخول، ما أن دخلنا وسط الزحام حتى لاحت لي عيني مارسيل وهو يقترب مبتسمًا ثم أزاحها لجوليا برهةً 

- أهلًا أهلًا، كأسًا من النبيذ وتصبح من الطبقة البرجوازية
أرى أنك بدأت تصبح محترمًا ..مَن السيدة؟
- أسمها جولـ
- أسمحي لي

أنحنى إلى يدها و قبلها فور لفظي للإجابه، كان ينظر إلى وجهي بشماتة الذي أستعاد شيئًا يخصه عنوه، أقترب من أذني وهمس "جميلة! لم استطع المقاومه" و رحل، بعدها سألتني جوليا أن كنت بخير فهززت رأسي كالكلب، ان تسمح لرجلٍ بأن يُقبل فتاتك أمامك فهذا هو الوقت الذي تصير فيه خنزيرًا، الذي منعك من لكمه حينها سيمنعك من لكمه أن عاشرها أمامك أيضًا، خلعت جوليا معطفها عن فستانٍ قصير يكشف ذراعيها و أنحناء خصرها، أمسكتني ثم سرنا بين الناس وهي تقودني لكرسيينا وأنا مازلت مستغربًا مارسيل وكيف أنه أراد إغاظتي بلا سبب، مستغربًا نفسي أكثر كيف أني لم أبدي ردة فعلٍ حتى اللحظه، هل أشعر بالتبعية له؟ هل له أن يقبل جوليا مرة أخرى لأنه أحضر لي حفنة شهرة و لوحات؟! أم هل أثار حفيظته وجودي بين أناسٌ لايفترض بي أن أقف معهم على نفس البلاط أنا العربي المُعدم، جلسنا في المدرجات ثم أشارت جوليا بناظريها للطابق العلوي "أنظر.. أنهم دائمًا في الأعلى، هؤلاء المترفين يودون لو تعلق توابيتهم ولا تدفن في التراب"، كنت أنظر إلى ملامحهم الجامده و شواربهم الكثه التي تكاد تقع عن وجوههم، نساؤهم المتوجسات بزينتهن و مراوح الريش في أيديهن، أكاد أسمع أفكارهن حول من ستردتي الفستان الأغلى و الحلي الأبهض والأندر، لو كان هذا سيركًا لكانت فقرة المهرجين تليق بهم أيما إيلاق، صمت الجميع، فُتحت الستارة، بيانو عريض على جانب المسرح الأيمن مع شمعدان نحاسيّ على سطحه مايجعل لمعانه جراء انعكاس الاضواء عليه كنجمٍ متلألأ، كان هنالك رجلٌ ببدلة مايسترو يجلس على الكرسي أمامه، رفع يديه ثم أخفضها برقه على المفاتيح، ضغط قليلًا فصدرت النغمة الأولى، أغمضت جوليا عينيها و مدت يدها نحو يدي، أمسكتها ثم همست "أسمع بأذنيك فقط ..أخمد كل حواسك"، رأيت يدها حمراء من اطرافها ذات اليد التي قبلها مارسيل فعلمت أنها كانت تحاول سحبها إلا انه شد عليها، استشطت غضبًا، حاولت ان أهدأ من اجلها، من أجل الموسيقى و كيف أنها قالت لي يومًا أننا ندرك بالسمع أكثر من أي حاسةٍ أخرى لذا حين يصدر أحدًا أو شيئًا نغمًا جميلًا يتحرك شيئًا ما في الكون، خرجت أيف ماريا في الربع الأول من المعزوفة فأدركت انها ماكانت الا افتتاحية لتهيئة الجمهور الجوعى، في هذه الاثناء شخص من العامه ممن جمعوا القرش على القرش مثل جوليا لم يستطع كبح جماح التصفيق فضرب يديه ببعضها بخفةٍ مرة، رأيت رجلًا من المتأنقين الواقفين للحراسة يقترب منه مهددًا أياه في أذنه بطريقةٍ مهذبه، هنا قد يفقد شخصًا عقله  او قد يقتل من مشية ماريا فقط، إمرأةً في الأربعين ترتدي فستان درابيه بلونٍ قمحي قريبٍ من بشرتها، شعرها كان أشقرًا داكنًا مائلًا للون الزيتون الأخضر مرفوعٍ للأعلى ومبعثرًا بحيويه حتى شككت بكونها فرنسيه، سارت برشاقةٍ نحو مكانها المحدد، بدت عفوية أمام الأنفاس المحبوسة للجميع، وقفت بثبات، أخذت نفسًا عميقًا ثم أغمضت عينيها منتظرةً النوتة المحددة، حين أتت فرجت شفتاها عن نغمة ألفٍ على أمتداد حنجرتها و باتساع اوروبا كُلها، ثم شيئًا فشيئًا عبرت بالحرف تلو الآخر على طبقات صوتها بعناية، غنت كما أن لاشيء يعنيها، كما لو انها في مطبخها تغسل الصحون والراديو مدارٌ على قناةٍ سياسية، مع الراء رأيت المجدلية تنشد تهويدةً للمسيح في مهده، مع هذا الحرف بالذات كانت جوليا ترتجف، كان طويلًا طويلًا و العازف يشد على الوتر بعنف أكثر مما ينبغي معه، مع الأحرف الباقيه كانت نبيه ..نبيه تقرأ كتابها المرسل على قومها الغاوون، كانت تأخذنا حتى الذروة وتعيدنا بملاطفه صغيره ..بحركة واحده خفيه، الموسيقى كانت حاضرةً وحدها وكنت مرهقًا إذ سلمت كل حواسي لها، فتحت عيناي بتثاقل، الأوبرا مازالت تُحكى وانا ادور برأسي على الجميع وهم يميلون كالسنابل في الحقل أين ما أخذتهم درجات الموسيقى، كنت أرى لوحة الأنصات لروفازشكيا ماثلةً بتجردٍ أمامي بالآنسات الشغوفات و الجميلات فيها، كنت أسمع الكونترباص والكمان لكنني لا أرى ألا بيانو وحيد، رصينٌ و وقور مثل فيلسوف، في النهاية للبيانو أوتار ولو بدت كمفاتيح، وتر بعد وتر بعد وتر ثم لفظت ماريا آخر نوتاتها فتراجعت للخلف و أنحنت للجمهور، مع رفعها لرأسها قام الجميع على قدميه دون أرادة منه مصفقًا كما وصفتهم جوليا تمامًا، حين جلسو تقدم مارسيل على المسرح آخذًا مكبر الصوت 
- مرحبًا، طاب مساؤكم يا ساده
 بالتأكيد سيطيب و يشفى بعد هذه الأوبرا الجليله، أنا هنا لأشكر هذه السيده على تشريفها إياي في مسرحي و رفعه بصوتها إلى السماء السابعه، هنا أرفع كأسي هذا ..نخب هذه الليله، للموسيقى و للحب ولأيف ..إيف ماريا ولا ننسى الذين لايشربون طبعًا!

كان ينظر إليّ مع جملته الأخيره ثم ضحك الجمهور ببلاهة وسط التصفيق و رأيت وجه جوليا يحتقن، لا أدري أمن غضب أم من نشوه، حاولت تجاهل استفزاز مارسيل المتكرر لي وإهانته السافره، سألتها أن كانت بخير فهزت رأسها ثم قالت وهي تمسح دمعها المحبوس طوال المقطوعه "انظر اليها.. حتى شهرتها لم تؤثر على تواضعها في احتساء كأس نبيذ مع أحدهم في نهاية الحفله" قلت لها "انها طيبه"، كان الجميع ينهضون من كراسيهم، ظننت ان هنالك جولةٌ ثانية ..مقطوعة أخرى ولو قصيرة لكن لا أظن ان احدًا يتحمل أكثر، كانت ساقا جوليا خادرتان، أرادت أن تجلس قليلًا، في هذه الأثناء كان صمتًا مخيفًا يقترب وسط الزحام، شيئًا مثل النهاية، ذكرني بسوسن وهي تخلع فستانها ومكياجها وكل زينتها آخر ليلة الزفاف، عينايّ تحومان حول الثريا الكبيره المعلقه في مركز السقف، بدت لي ستسقط في بحر الاضواء الصفراء هذه التي سببت لي ثقلًا وانتشاءً في الوقت عينه، فجأة صار المشهد ضبابيًا، كنت افتش عن إيحاءٍ ما في الشخوص المرسومة على السقف حتى شعرت بلوثة على عدسة عيني، حككتها و دمعت قليلًا، أنتبهت إلى رأسي وقد غدا كمزمار قربة منفوخه، كان ذلك بسبب الكرنفال في دمي، مددت يدي لجوليا وكأني أدعوها لرقصه، انحنت بيدها في يدي و خرجنا من القاعه، من الجموع المتكدسة حول نفسها و النبيذ و آخر الفرح

- ألن تشاركي في النخب؟
- أنا لا أشرب

سرت متأبطًا ذراعها تحت إكتضاض الغيوم السوداء والمشحونه حتى بدت السماء كمأتمٍ كبير، حاذينا الجدار حتى انقطع إلى جدارٍ آخر ثم إلى آخر، كل شيء يُطفئ نفسه، أعمدة الأناره الشرفات المحلات الناس، كان هنالك ضوء خافت من زجاجة عريضه أستوقفنا انا و جوليا، ملابس دقيقة مع تطريز خفيفٍ للحواشي عُلقت على منيكانين مع لافتة بخطوط نيون رفيعه، أمعنا النظر خلف فترينة المحل، بدا لي معمل خياطة أكثر منه مِحلًا لأستقبال الزبائن بكل هذه المكينات و لفائف الأقمشة، كان هنالك فستان قصير بلون زهر الإوركيد البنفسجي مع قوسين مكشوفين على جانبي الخصر، قلت لها

- أترين ذاك الفستان، لقد خيط لك!
- سترتديه غيري
- لمَ؟
- لأن خصري مشوه

قالتها بتبسم من لايريد الأجابة أكثر، لم أفهم ولم أحاول ولم أستطع النظر في وجهها فنظرت للفستان مرةً أخيره ثم زفرت بخارًا عميقًا من فمي، فتحت أزارير معطفي ثم أستدرت أمامها "تعالي هنا"، توغلت بذراعيها ملتفة على جسدي، ضمتني و شمتني "أصبحت أكثر جرأه"، شددتها لصدري أكثر، شعرت بقطرة ماء على رأسي ثم توالت القطرات البلوريه والثقيله حينها اطبقت يديها اوثق على ظهري، حركت رأسها بأنزعاج من قميصي الذي يفصلها عن جلدي، كنت ساخنًا رغم البرد "ابقى معي هكذا مثل الأفلام ..احمقين تحت المطر، بللني كما هذه المدينة"، و كنت أغرق، معطفي يثقل جسدي و شفتيّ على رأسها مفتوحتان بيأس بتجرد، ثم أخذ المطر يرطبها حتى شاع برائحتها، كل شيء كان يذوب في فمي من أضواء المدينة المنفى حتى شعيرات جوليا

- عصفورتي ..نعود؟
- متى أصبحت عصفورة؟
- منذ اللحظه

كانت هنالك نهاية واحده و كاملة لهذه الليله .. أريكة جوليا، الكنبة التي صارت محركًا شهويًا بيننا، بين شقتي و شقتها لاشيء يثيرنا أكثر من جلوسٍ على الأريكة، هنا في هذه المدينة الضبابية حيث واجهات البيوت و الشوراع وظلال الناس تتلاشى في بعضها تحت قدميك، لاشيء يبقيك صاحيًا في هذه العتمة سوى وهج إمرأه، ثمة نساء يعود المرء إليهن كل مره عودات لامنتهيه، مثل تردد صوت البحر في اذنيك ما أن تخرج منه حتى تعود إليه دون إرادة .. غرقٌ داخل غرق، فتحت لي الباب و كأنه نفق طويل ثم تركت يدي ودلفت للداخل خالعةً معطفها الرطب، دخلتُ أجر نفسي حتى الأريكة المزهره، خلعت معطفي كما يخلع جنديّ آخر عتاده الثقيل ثم رميت بجسدي عليها، كانت في حمامها متكأةً بذراعها على المغسله تمسح ماتبقى من الليل، مصباح السقف المتدلي أشاع الضوء للخارج حيث كعبها العالي على المداسه و معطفها المعلق على المشجب ثم فضاء الصالون، دائمًا هنالك حزن عميق مع كل فستان يُخلع او كحل يُمسح، مع المناديل المتسخه بالزينة نهاية الحفله، كانت تقترب بكتفاها للمرآة و كأنها تتفحص وجهًا ليس لها، غارقًا في وضاعتي على الكنبة التي بدأت تتشربني، أنظر إليها وأرى كيف سمحت لرجلٍ غيري بتقبيلها، كل هذا التفاني في الخلق لايكون إلا لرجلٍ واحد، رجلٍ أناني و جشعٍ و عنيفٌ في الحب يأتي ليكمل الأنوثه بذكورة الأنتباه، اقتربت نحوي في شبقٍ ممزوج بتردد البداية، وقفت بمحاذاتي ثم رفعت رجلها و جلست على خصري، كان جسدها يتحرك بطريقة صِرفه و عينيها حارتان، رفعت ظهري نحوها كمعانقه ممتشقًايدي لسحاب فستانها فأنزلته ثم أسقطت فستانها حتى آخر ظهرها، فتحت مشبكيّ حمالتها و جردتها عنها إلى الأرض، ابتعدت متأملًا حتى صار جلدها محمومًا و بدت خجلى فأفليت شعرها و فردته نصفين واضعًا كل نصفٍ على نهد، مغطيًا اعلهما بأطرافه التي استطالت مؤخرًا، و بتلك الرقة و الخوف اللذين بهما يجرؤ المرء على أول مداعبة فتحت هي أزرار قميصي واحدًا تلو الآخر كاشفةً عن صدري المبلل، أستلقيت و تمددت على جسدي بشعرها الاحمر المموج و نصفها العاري من كل شيء ماعدا قرطا لؤلؤ، كانت خصل شعرها تدور و تتلوى كالزخارف الكنائسية على ساحة صدري، كالرخام بدت ..كالآجر المنحوت بعناية القداس مثل تمثال بيرنيني نشوة سانتا تريسا وكم بدت في حالات العشق القصوى، تحركت، انحسرت بيننا قطرات المطر، شفتاها مفتوحتان على جلدي بحدة العاطفة وحرارة الإيمان، إمراة من فرط غوايتها تخلقك من جديد .. خلقا من بعد خلق، قالت "كتاب فواكه الأرض "دع كل العواطف قابلة للتسمم اذا لم يؤثر بك طعامك اذن انت لست جائعًا"،هذه المرة الثانية التي تبلل فيها اريكة جدتي هكذا جلال" "لأن هذا هو التسمم ..انا مريض، ثمة وباءٌ هنا"، كنت أسمع صوتًا في الأبرة التي تدور على الاسطوانة من دون صوت، المدينة في الخارج تلفظ أسمها كأمرأةٍ تقبلك دون أن تؤثر فيك، و كل شيء عن آخره يوحي بالمرض الحقيقيّ بالأدمان على عدمية التشافي، لامست بأصبعي خط ظهرها حتى نهايته، تحسست جلدًا منكمشًا عند خصرها فعرفت انه ذاك التشوه الذي قالته

- أبي حرقني بالمكواة

سكنتُ قليلًا ثم حركت أصابعي على انحناء خصرها كما تداعب مفاتيح البيانو ..كمعزوفه ليست إلا في جسدها في محاولة لحثها، ابتسمت بسخرية

- ألست تقولين أن لكل شيء صوت؟
خصرك من تلك الأشياء
- جلال، انا لا اخجل من التعري امامك فحسب

انها قبلي بكل ثمارها و أغوارها الا اني لن اعاشرها، ببساطةٍ هكذا أريدها كما هي الآن، مفعمة هادئه كضريح و جليلة كالمجدلية، تغشيني بنفسها و باللمسات الطفيفة لبشرتها الناصعه و الواضحه جدًا تحت خيطي الضوء من الشباك، كنت معها و كان أمان الله، أسكنها بجسدي و كل ماحُملت به من خوفٍ و حروب و رماد، للحظة شعرت أن أمي حاضرةً فيها وهي تتبسم بسخرية محضةٍ مثلها و توزع شعرها على صدر ابي في العشر الدقائق التي كان يأتينا فيها مثل شبح وزعت جوليا بنفس الطريقة خصل شعرها على صدري، بانتظام الأبرة في التطريز الملكي و دقته الآسره، كنت شبح أبي لسنوات انصرمت، بمعطفه و معطفي الآخر، في البيت في المقهى في شوراع باريس في شقة جوليا و على أريكتها، كنت هو ..منسخلًا عنه، أسمعه يتمتم في أذني كلامًا شيطانيًا حين أكون وحدي، أراه أحيانًا يعبث في أدراجي، مرة أستيقظت و رأيته بجانبي ممدًا ينظر إليّ و كأنه يأكد تلاعبه بي خارج الأحلام التي لايعنيه المجيء فيها فالشهداء أحياء ان توقفت عن اعتباري أياه منتحرًا، أنتفضت بهلع، تحركت جوليا من فوقي "مابك؟" "لاشيء"، نهضت رافعةً جسدها أعلاي، وضعت رأسي بين نهديها وضغطت عليه، كان نهدها بحجم يدي، "سأغني لك لاتكن شقيًا"، غنت لي بالفرنسية، لم أفهم شيئًا لكن صوتها كان كجموع من الناس ..ألفية حشود، كورالٍ ضخم بكل آلاته الموسيقية، لطالما أحببت طريقتها في الحديث بالفرنسية، ممرت شفتي على نهدها مغمضًا عيناي بحثًا عن الحلمه، حين تحسست جلدها الشفاف و الرقيق اطرقت هي في وجوم إلا أن قلبها صار كصندوق موسيقى، فتحت شفتيّ مستقرًا بها في فمي بعدها خلت أني نمت على صدرها، لم أشعر بأدنى شيء حتى عذابات أيوب في قلبي تلاشت إلى أن نهضت عني، تلك المرة الثانيه التي تنهض فيها عن صدري هكذا، دخلت حمامها و كنت أسمع قطرات الماء على بلاط الحمام وكأنها تسقط في أذني لكني إلى الآن لم أسمع صوت المفتاح وهو يدور مغلقًا الباب عني، لم تقفله، تركته مفتوحًا ليس دعوةً لي أنما يقين بخلوي من العزم الذكوريّ في هذه الأثناء، خرجت حافية بالبُرنس الأزرق الباهت كلون أطراف الموج الباهته الشفافه و الساذجه، مجددًا لم أسمع صوت ملابسها الداخليه الصغيره و هي تنجذب لجسدها فتصدر صوتًا للأتصاق لايكون الا لجسد، هذا يعني انها عاريةً من كل شي، شَفّت نصف الظلمة عن بشرتها الزهرية البيضاء، دخلت مطبخها، ثوان فشممت رائحة البن التي صارت تثير غيرتي، حين تكون عندي تبحث عن قهوه

- ملابسك مازالت لديّ، انها نظيفه ان كنت تريد ارتداءها

ببرودةٍ لم أجد لها تفسير قالتها و كأنها فرغت مني، مشيرةً بطرف عينها لخزانتها في الغرفه، قمت من مكاني للدولاب كأني بيدقٌ تحركني بأصبعها بدون حذر، فتحتها فوجدت ملابسي موضبة بين ملابسها، تلك المرة التي تركت فيها ملابسي الماطره وددت لو تركت فيها نفسي و ملابسي الآن، خلعت قميصي ثم بنطالي ببطء خبيث لتراني من الخلف حيث لا أراها، كانت ملاءة السرير موضوعة بشكلٍ هندسي، الأبجورة على المنضده في الوسط تمامًا، الستائر، قطعة السجاد القاشاني، كل شيء مرتب، ملتزم بأحتشام يوحي إليك و كأنه منزل دميه، سرت ناحيتها حيث كانت جالسة على أريكتها الأخرى في إضطراب 

- مازلتَ غاضبًا ..ألست تعرفه؟
صفِ حسابك معه لا معي
- مابكِ جوليا؟
- قلت لك ..مازلت غاضبًا
- أنتِ حساسة فقط
- دائمًا تعزي الأمور لحساسيتي!
- لحظت أحمرار يدكِ من قبضته فغضبت، الآن أنا هادئ
- أتعني أن قبلني مرةً أخرى ستغضب ثم تهدأ هكذا ببساطه؟!
- انا لم أقل هذا جوليا، مابكِ الآن!
هل أقتله أمام عينيكِ و الناس كي ترضيّ!
- نعم أفعل!
- يا سميع!

قمت من مكاني، تناولت معطفي من على الأرض و وقفت صوب الباب "جوليا حبيبتي، لاأدري مم غضبك، افردي وجهك الجميل هذا لأجلي قبل ذهابي ..هيا أين الابتسامه؟ طيب" أقتربت منها وانحنيت على خدها مقبلًا اياه بجانب الشفه "تعرفين رقم هاتفي"، أدارت وجهها عني ولكم بدت لذيذة بسخطها عليّ، غادرتُ شقتها متخذًا غضبها كحجة غياب للرجوع إلى الفريسكو الكبيرة ..مثل امرأةٍ سرية أعود إليها آخر الليل لتنفض تعبي بتعب آخر، في أوج حميميتي مع جوليا أتت لتذكرني بوجودها الحتمي، أدرت الكرسي أمامها، جلست حتى الصباح مشرعًا عينيّ كالديك، أراقبها و تراقبني، أحدنا لن يعترف بما عنده، لعنتها ثم نمت منكفأً فجوليا حتى الآن ..لم تتصل
سويعات و جلست مجددًا حاملًا قدمايّ حتى القاعه، شعري منكوش ولا أدري مالذي أرتديه، دخلت كمحارب، تجاوزت البوّاب من دون إجابه ثم فتحت باب مكتب مارسيل باندفاع، كان منكبًا يقلب في الأوراق
- علمت انك ستأتي
- سألكمك
- هل تستأذنني لتلكمني؟!
- لا!

غرزت قبضتي في عظام وجهه بما أوتيت ماجعل أنفه ينزف بغزاره، "حقير!" قالها وهو يضحك، مسحت دمه المتطشر على يدي في أوراق مكتبه المبعثره و خرجت، و انا في الشارع هرع لفتح النافذه مطلًا منها عليّ و رافعًا صوته مع رأسه بمنديل متكومٍ على أنفه و بعربيته الركيكه التي لا أطيقها "الرجل الفرنساوي يفرح حين تُقبل يد فتاته الجميله!"، "الرجل الفرنساوي شرموط! خنزير!"، "هههه ههههه ههههههههه"، ثم بدأ يضحك ضحكته المتقطعه ببجاحه وانا اسير مبتعدًا، بدا يتسلى بمضايقتي في الآونة الأخيره، لا أدري مالذي حدث لرتم الأيام هنا، سمعت صوت البوّاب يناديني فالتفت إليه، قال وهو يجمع أنفاسه "سيد جلال ..السيد مارسيل يخبرك بتواجد مرممون محترفون في القاعة الليلة و يريدك ان تكون حاضرًا"،  ذهب ثم عدت للساحه، للبلاط البارد كمهرج السلطان، لاشيء يبقيه على قيد الحياة سوى نكتة، تصفده و تلتف حول عنقه يومًا بعد يوم حتى يأتي اليوم الذي فيه يضحك عليها وحده بوجهه الذي تقلص بحجم ابتسامة فتنتهي منه ..مني، انا الذي صرت محطًا لسخرية جبريل و عزرائيل معًا فلا وحيٌ نزل ولا موتٌ استفاق، عدت لشقتي غاسلًا هذا الجلد على وجهي و بقايا الدماء في قبضتي الهرقلية التي فاجأتني بما أحدثته في ملامح مارسيل هذا الصباح، تفقدت محفظتي و للشارع نزلت بحثًا عن أي شيء يشغل تفكيري غير الأطياف البيضاء في شقتي و رنين الهاتف، الهاتف الذي صار في كل كبائن الشارع يحمل صوت الصبية الحمراء الشقيه بالبُرنس الأزرق، سرت ممشطًا الطريق بعبثية، كنت ألعب مع البلاط الحجري المرصوف و أعد كم عشبة أراها تنبت متهكمةً في الوسط، تعرفت على الكثير من نباتات الرصيف حتى أني أطلقت عليها أسماءً مثل نبتة مريم وهي أجملهم جميعًا، بحواف أوراقها المتدليه للأسفل  بتلك الأنحناءة الذكية و الجذابة و بساقها المحمر الرفيع الذي لم أره إلا واقفًا برغم ازدحام الأحذية، كنت أغازلهم كافة وانا أمشي على الهواء مع الهواء تحت الهواء ..لا أدري، يبدو أني مريضٌ حقًا، أنا مريضٌ جوليا أسمعيني أنا مريض

- يا ولد!
ألتفت ناحية الصوت فأذا به عجوزٌ من خلف الزجاج و الركام لكتبٍ و معدات و أشياء لم أحدد ماهيتها
- ضائع؟
- تقريبًا 
- تعال و أقرأ معي كيتس

دخلت متحذرًا الأرتطام بالكتب المكدسة و صناديق الكرتون الكثيرة ذي الحواف المشطوفه حتى جلست على كرسيّ خشبي أمام مكتب منفرج يبتلع ذاك العجوز بكنزته الصوفية و قميصه الأحادي، تبادلنا نظرتين و صمتين متفحصين، ثم قال وفي يده كتاب مفتوح

- كيتس
- جون كيتس
- انه مبهر
- رائع
- "هل أقارنك بيوم من أيام الصيف؟ 
أنك أحبّ من ذلك و أكثر رقة
الرياح القاسية ستعصف ببراعم مايو العزيزة
وليس في الصيف سوى موعدٍ وجيز"
- هذا شكسبير
- "تركتني أيتها الحاضرة الجامدة
بعثرتني في كل مكان بعثرتني بعينيكِ
بقلب الأحلام تركتني كجملة ناقصة
متاع صدفة، شيء، كرسي
معطف في آخر الصيف
بطاقة بريدية في درج
سقطت كل حياتي منكِ لدى أدنى حركة"
- لويس أراغون ..ليس كيتس
- "عندها، رغم أنك في أرتحالك الشجي
رحيقكِ بدا يتشارك مع الآله حماقتكِ لتوديع أحد
الجمال، تلك القوة التي سحرت البشرية جمعاء تمثلت
في عاشقين يائسيين ..من منهما للحياة؟
و انتِ لك موسيقاكِ وحدكِ"
- فولتير ..الجملة الأخيرة لكيتس
وضع الكتاب على الطاولة ثم صفق بيديه المجعدتين الكبيرتين  
- جيد جدًا ..ممتاز
هل لاحظت أنك ترتدي قميص البجاما المخطط؟
- لا
- شكرًا للرب!
تعال معي

أخذني نحو بابٍ ثخين من خشب الصنوبر الأحمر المحفور بصعوبه فلم تكن الزخارف في مقدمه منتظمه إلى بهو فسيح مفروش بالسجاد حيث الأرفف تصل للسقف و الكتب غفيرة كجموع الحجيج، على الجدار الفارغ نافذة طويلة و مدفأة صغيرة من الطوب الحجري مع حطبٍ جاف على جانبيها كنبتين مخضرتين بخفه، بدا المكان كبيت لعائلة حتى ان هنالك صور معلقه لأناس مجدبي الملامح، بقيت أطالع المكان، أخذ العجوز سلمًا بعجلتين و أرتقى بين الأرفف حتى توقف عند أحدها متحسسًا بأصبعه المتحرك الكتاب المنشود، فتح واحدًا ثم قال بصوتٍ رزين

- "من الذي لم يركِ غائبةً وسط مخزنكِ
و يبحث عنكِ بين الحين و الآخر خارج الوطن
يجدكِ جالسةً غير مبالية على أرضية القمح
و شعركِ بالريح المغربلة منتصبٌ بلطف
أو في الحقل الغير محصود تمامًا تظهرين نائمه
ناعسةً من دخان الخشخاش"
- بينما تبقى شفتيّ متأهبه لموضع القُبلة
- جملة ذكية! 
متأكدٌ انها ستعجب كيتس لو قرأها
أنت مطّلع جيد ومقدمٌ على رسمٍ كبير
- كيف عرفت؟
- ان الشعراء لاينسون ان يثنو ياقة معاطفهم وقمصانهم بالشكل الصحيح مثل قصائدهم تمامًا اما الفنانين فيفضلون البجاما المخططه على اي شي آخر
خذ هذا

أفلت الكتاب من يده عاليًا و أسرعت للتقاطه ماجعل يدي تهبط قليلًا من ثقله "جان راسين -اندروماك -تراجيديا مسرحيه"، كان عريضًا و أطراف أوراقه مصفره، قلبته ثم أدرت رأسي نحو الرف بجانب كتفي "لافونتين حكايات خياليه-خرافه/موليير-مسرح"، قال العجوز وهو ينزل آخر الدرجات "هذا الرف للافونتين و موليير أبعدت عنهم ثالثهم جان راسين كي لا يجمعهم نيكولا بوالو -الذي ابعدته هو الآخر- في صالونه أو في شارع فيو كولومبييه، لقد اعتادو ان يلتقو هناك" "لكن هؤلاء مسرحيون وليسو شعراء" "انت بحاجة للمسرح، أليست اللوحة مسرحًا كبيرًا؟ دع الشعر لأهله ..ستفسدك القصائد" "أعطني كتابًا لكيتس" "لا أبيع كيتس ..سأجد لك كتابًا جيدًا"، رافعًا عينيه دون رأسه قالها لي بجديةٍ واضحه، حرك السلم مرة أخرى، أدرت رأسي نحو الكنبتين المخضرتين، كان هنالك سيدة تجلس بوداعه على أحدها بين يديها كوبًا ابيض، أشعة الشمس من النافذه و قبعتها الأنجليزية الملتفة على رأسها تجعل من الظلال اكثر توغلًا بحيث لا أرى ملامحها جيدًا، ترتدي فستانًا فكتوريًا واسعًا وتنظر لشيءٍ في كوبها يدعوها للأبتسام، ألتفتُ للعجوز يبدو انه لايلحظها، نظرت إليها مرةً أخرى، رفعت عينيها في عينيّ و ابتسمت، ارتجفت فجأه ..ثم ماعدت أراها

- ألام كنت تنظر؟
- لاشيء ..ظننت لوهلةٍ اني رأيت سيدة
- أدعو يسوع أن يحميك، هذا المكان قد يصيبك بأكثر من هلوسات ان مكثت فيه أكثر ..دعنا نتعجل في أختيار كتابٍ لك

أخرج واحدًا من صندوق، بدا كمذكرةٍ بخط اليد، قال أنه كتب فيها مقتطفاتٍ من قصائد جون كيتس وبعضًا من شوارده حين كان شابًا، قال ان ذلك سيفيدني أكثر من كتابٍ مسرحي، حين خرجنا من الغرفة أغلقها خلفنا، سألته عن قصتها ..لم يُريد الحديث في البداية حفاظًا على خصوصية الموتى ..أصحاب هذا المكان، "في البدء كان منزلًا لعائلة من الطبقة المتوسطة تعيش على ميراث الأب و كتابات الزوج، الزوج كان كاتبًا لقصص قصيرة يحكيها في مجالس العائلة و الأصدقاء ويتقاضى على ذلك اجرًا جيدًا، تحول إلى ناطقٍ فاشلٍ بالترهات في نهاية حياته، لم يكن أديبًا في الكتابة، كانت قصصه عاديةً جدًا لكن طريقة روايته لها لم تكن عادية ..كانت أخاذه، صوته، ملامح وجهه، حركة يديه ..كله كان ضمينٌ بجعل أي من مستمعيه واحدًا من شخوص حكاياه، كان الناس ينصتون إليه كما ينصت العبد للرب في حالة الأحتضار، الفتيات الشابات كن يهمن فيه، يبقين يحدثنه حتى آخر لحظه من ركوبه عربته مع زوجته حتى أنهن كن يتجرأن و يدسن له الرسائل في كم معطفه، كان يبتسم و زوجته ترى كل ذلك و تبتسم هي الأخرى لأن ليس لديها غير التبسم، رجلًا مثله ليس ملكًا لزوجه ولا حتى لنفسه ..انه ملكٌ للجمهور، لم يكن يعنيه كل هذا المديح ولا حتى الفتيات إلى ان جائت صبية يافعه شاركته مرةً روايته بالعزف على البيانو حتى صار صوت اللحن و صوته واحدًا، ليلة واحدة ..عشرون دقيقة كانت كفيلة بجعله لايرى على الأرض غيرها، كان مولعًا بها، طلبها مراتٍ عدة لكل شيء ..لرقصة، لكأس نبيذ، لجولة في الشارع إلا انها كانت تمتنع ثم جاء اليوم الذي طلبها فيه لمعاشرة و قبلتها فكانت هنا ..في هذه الغرفه حيث يكتب و السيدة زوجته حيث نحن الآن، تسمع تأوهاتهما من خلال الباب الثخين هذا وهي تشد قماشًا على إطار خشبي وتطرزه، تدخل الأبره و تخرجها في نفس المكان" ثم قال أنه أشتراه بعد سنواتٍ طويلة و حوله لمحل خرداوات، كنت غائبًا قليلًا فيم قاله فأخذني لغرفةٍ اخرى بها كل مستلزمات النحت و الرسم وغيرها من الفنون، كانت مهرجانًا من الألوان، أشار إلى أكياس كبيرة من الخيش تحمل ألوانًا قديمة مسحوقه كبودرة، "هذا هو الازرق الكوبالت و هذا الاحمر القرمزي انها ممتازه و اصليه وغاليه ايضًا الا ان الفنانين هذه الايام يفضلون المخلطه الجاهزه ذلك انها توفر عليهم الوقت و عناء الحصول على اللون الذي يريدونه، سأبيعها لك بسعرٍ أقل من سعرها"، شكرته ثم وعدته اني سأعود لأشتريها منه، خرجت من المكان و ما أن خطوت بضع خطوات حتى شعرت به يختفي في ضباب الغروب، لست متأكدًا ان كان دماغي يُخيّل لي أم أنها حقيقه لكني مشوش، حين اقتربت من القاعة جلست على الرصيف من بعد منتظرًا وصول المرممين، أنتظرت حتى الثامنة و النصف ثم رأيتهم يخرجون من سياراتهم كلصوص البنوك، رافعيين قبب معاطفهم لتغطي نصف وجوههم، متحركين بخفة الهواء مع حقائبهم و معداتهم، حين دخلو جميعًا دخلت من بعدهم، طرقت باب مكتب مارسيل فقال لي أن ادخل

- أوه جلال
ظننتك العجوز جورج ..البواب
قاطعت عليّ حميميتي، أنظر إلى الكدمة في أنفي و أسفل عيني، سيستغرق ذلك أسبوعين حتى يطيب

هذه المره لم تكن الأوراق على مكتبه بل مسدسات بعياراتٍ مختلفه، واحد أثنين ثلاثة و الرابع في يده يلمعه بمنديلٍ مخمليّ، في فلسطين اعتدت رؤية البنادق لكني إلى الآن أراها كما المرة الأولى، تلاحقني اينما ذهبت كطريدة، كان ينفخ عليها و يضعها في حقائبها المنجده كأن عليها أن تعيش دائمًا في بيت منجد أو فلنقل -نظرًا لفخامتها- جسدٍ منجد، "جلال، رجل مثلي عليه دائمًا ان يحمل مسدسًا"، قالها لكي أذهب مغلقًا الباب خلفي، كنت أنظر إليه بازدراء ناسيًا ما أردت قوله فخرجت، حين صعدت لدور المسرح وجدت الجميع متفرقين و أدواتهم على المسرح، أخذت نظرة على المكان فوجدت رأسًا مألوفًا، أقتربت فأذا به ذاك المدرس الأصلع في نادي ألين، مددت يدي له و سألته ان كان يعرفني "انت جلال نصر شما أقمت معرضًا هنا لكني لم أحضره، انا لا انسى أحدًا اراه، لا أظن أنك أتيت هنا لترمم"، قالها واثقًا من شكلي البسيط الذي لايوحي الا بفنانٍ بسيط أيضًا، تحدثنا قليلًا ..مازال وجهه بجمود السياسيين فقط عيناه تتحركان في حدقتيهما، سألته عن الفنان الذي رسم كل هذا

- انه ليس مشهورًا، اسمه جان دونيز لوبتاه.. حتى اسمه لاينتمي إلى أحد، يجعلك تشعر و كأنه ولد مومس او وضع له اسمٌ ملفق، بحثت عنه، لم أرد ان ارمم لوحات شخصٍ لا اعرف عنه الا اسمه والقليل من حياته
- أتسمح بالتحدث لي عنه؟
- ليس هنالك الكثير، تبدأ حياته مع هذه القاعه حين شيدها الدوقٌ غروغوري، ظل يبحث عن فنانٍ مجهول على قياساته الصارمه لأن الفنانين المعروفين هنا صارو مبتذليين في رأيه، لاحظ شاب يراقب أعمال البناء منذ بدأت و يأخذ لها رسومات من زوايا عدة، يوم بعد يوم بعد يوم لحقه الدوق في الليل حتى بيته، وجد لوبتاه يعيش في أقذر الأحياء و أفقرها، فانتشله و البسه و تركه يرسم كما يشاء
كان يرسم و العروض تقام، الناس ظلت مشدوهة بالرسم لا بالعرض حتى اغلق الدوق القاعة لثلاث سنوات لذلك السبب، كانت تركب له سقاله حتى السقف ويرسم وهو مستلقيًا على ظهره ذلك ان الرسم على الأسقف واقفًا صعب و متعب ، الدوق يلقبه بالقرد لأنه يتنقل بين السقالات و الرسومات غير مستقرٍ على واحده، لقد أنهاها كلها دفعةً واحدة

واقفًا بأخلاص التماثيل يحكي لي وهو ينظر بعينيه لوحات الشاب القذر وكيف أنها صارت محطًا للدراسة و معلمًا للقاعة و لباريس كُلها

- تذكرت
يقال أن والده كان راوٍ فاشل لقصص قصيرة 


يتبع*